فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وجوز أن يكون الموصول في محل نصب على الاختصاص وأن يكون في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف صفة له أو مبتدأ و{الرحمن} خبره، وجوز أن يكون {الرحمن} بدلًا من المستكن في {استوى} ويجوز على مذهب الأخفش أن يكون {الرحمن} مبتدأ، وقوله تعالى: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} خبره على حد تخريجه قول الشاعر:
وقائلة خولان فانكح فتاتهم

وهو بعيد، والظاهر أن هذه جملة منقطعة عما قبلها إعرابًا، والفاء فصيحة والجار والمجرور صلة اسأل والسؤال كما يعدى بعن لتضمنه معنى التفتيش يعدي بالباء لتضمنه معنى الاعتناء وعليه قول علقمة بن عبيدة:
فإن تسألوني بالنساء فإنني ** خبير بادواء النساء طبيب

فلا حاجة إلى جعلها بمعنى عن كما فعل الأخفش والزجاج والضمير راجع إلى ما ذكر إجمالًا من الخلق والاستواء، والمعنى إن شئت تحقيق ما ذكر أو تفصيل ما ذكر فاسأل معتنيًا به خبيرًا عظيم الشأن محيطًا بظواهر الأمور وبواطنها وهو الله عز وجل يطلعك على جلية الأمر.
والمسئول في الحقيقة تفاصيل ما ذكر لا نفسه إذ بعد بيانه لا يبقى إلى السؤال حاجة ولا في تعديته بالباء المبنية على تضمينه معنى الاعتناء المستدعى لكون المسئول أمرًا خطيرًا مهتمًا بشأنه غير حاصل للسائل فائدة فإن نفس الخلق والاستواء بعد الذكر ليس كذلك كما لا يخفى.
وكون التقدير إن شككت فهي فاسأل به خبيرًا على أن الخطاب له صلى الله عليه وسلم والمراد غيره عليه الصلاة والسلام بمعزل عن السداد، وقيل: {بِهِ} صلة {خَبِيرًا} قدم لرؤس الآي.
وجوز أن يكون الكلام من باب التجريد نحو رأيت به أسدًا أي رأيت برؤيته أسدًا فكأنه قيل هنا فاسأل بسؤاله خبيرًا، والمعنى إن سألته وجدته خبيرًا، والباء عليه ليست صلة فإنها باء التجريد وهي على ما ذهب إليه الزمخشري سببية والخبر عليه هو الله تعالى أيضًا.
وقد ذكر هذا الوجه السجاوندي واختاره صاحب الكشف قال: وهو أوجه ليكون كالتتميم لقوله تعالى: {الذى خَلَقَ} الخ فإنه لإثبات القدرة مدمجًا فيه العلم، وكون ضمير به راجعًا إلى ما ذكر من الخلق والاستواء، والخبير في الآية هو الله تعالى مروي عن الكلبي، وروى تفسير الخبير {بِهِ} تعالى عن ابن جريج أيضًا.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الخبير هو جبريل عليه السلام، وقيل: هو من وجد ذلك في الكتب القديمة المنزلة من عنده تعالى أي فاسأل بماذكر من الخلق والاستواء من علم به من أهل الكتب ليصدقك، وقيل: إذا أريد بالخبير من ذكر فضمير {بِهِ} للرحمن، والمعنى إن أنكروا إطلاق الرحمن عليه تعالى فاسأل به من يخبرك من أهل الكتاب ليعرفوا مجيء ما يرادفه في كتبهم.
وفيه أنه لا يناسب ما قبله ولأن فيه عود الضمير للفظ {الرحمن} دون معناه وهو خلاف الظاهر ولأنه كان الظاهر حينئذ أن يؤخر عن قوله تعالى: {مَا الرحمن}.
وقيل: الخير محمد صلى الله عليه وسلم وضمير {بِهِ} للرحمن؛ والمراد فاسأل بصفاته والخطاب لغيره صلى الله عليه وسلم ممن لم يعلم ذلك وليس بشيء كما لا يخفى، وقيل: ضمير {بِهِ} للرحمن، والمراد فاسأل برحمته وتفاصيلها عارفًا يخبرك بها أو المراد فاسأل برحمته حال كونه عالمًا بكل شيء على أن {خَبِيرًا} حال من الهاء لا مفعول اسأل كما في الأوجه السابقة.
وجوز أبو البقاء أن يكون {خَبِيرًا} حالًا من {الرحمن} إذا رفع باستوى.
وقال: يضعف أن يكون حالًا من فاعل اسأل لأن الخبير لا يسأل إلا على جهة التوكيد مثل {وَهُوَ الحق مُصَدّقًا} والوجه الأقرب الأولى في الآية من بين الأوجه المذكورة لا يخفى، وقرئ {فسل}.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسجدوا للرحمن} القائل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الله عز وجل على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام ولا يخفى موقع هذا الاسم الشريف هنا.
وفيه كما قال الخفاجي: معنى أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد {قَالُواْ} على سبيل التجاهل والوقاحة {وَمَا الرحمن} كما قال فرعون {وما رب العالمين} [الشعراء: 23] حين قال له موسى عليه السلام {إني رسول من رَّبّ العالمين} [الأعراف: 104] وهو عز وجل كما يؤذن بذلك قول موسى عليه السلام له: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السموات والأرض بَصَائِرَ} [الإسراء: 102]، والسؤال يحتمل أن يكون عن المسمى ووقع بما دون من لأنه مجهول بزعمهم فهو كما يقال للشبح المرئي ما هو فإذا عرف أنه من ذوي العلم قيل من هو، ويحتمل أن يكون عن معنى الاسم ووقوعه بما حينئذ ظاهر.
وقيل: سألوا عن ذلك لأنهم ما كانوا يطلقونه على الله تعالى كما يطلقون الرحيم والرحوم والراحم عليه تعالى أو لأنهم ظنوا أن المراد به غيره عز وجل فقد شاع فيما بينهم تسمية مسيلمة برحمن اليمامة فظنوا أنه المراد بحمل التعريف على العهد.
وقيل: لأنه كان عبرانيًا وأصله رخمان بالخاء المعجمة فعرب ولم يسمعوه.
والأظهر عندي أن ذلك عن تجاهل وأن السؤال عن المسمى ولذا قالوا: {أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} أي للذي تأمرنا بالسجود له من غير أن نعرفه فما موصولة والعائد محذوف.
وأصل الجملة المشتملة عليه ما أشرنا إليه ثم صار تأمرنا بسجوده ثم تأمرنا سجوده كأمرتك الخير ثم تأمرناه بحذف المضاف ثم تأمرنا.
واعتبار الحذف تذريجًا مذهب أبي الحسن ومذهب سيبويه أنه حذف كل ذلك من غير تدريج، ويحتمل أن تكون ما نكرة موصوفة وأمر العائد على ما سمعت.
ويجوز أن تكون مصدرية واللام تعليلية والمسجود له محذوف أو متروك أي أنسجد له لأجل أمرك إيانا أو أنسجد لأجل أمرك إيانا.
وقرأ ابن مسعود والأسود بن زيد وحمزة والكسائي: {يأمرنا} بالياء من تحت على أن الضمير للنبي صلى الله عليه وسلم وهذا القول قول بعضهم لبعض {تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ} أي الأمر بالسجود للرحمن والإسناد مجازي.
والجملة معطوفة على {قَالُواْ} أي قالوا ذلك وزادهم {نُفُورًا} عن الايمان وفي اللباب أن فاعل {زَادَهُمْ} ضمير السجود لما روى أنه صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم سجدوا فتباعدوا عنهم مستهزئين، وعليه فليست معطوفة على جواب إذا بل على مجموع الشرط والجواب كما قيل: وفي لا يستقدمون من قوله تعالى: {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34] والأول أولى وأظهر. اهـ.

.قال القاسمي:

{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ}.
أي: على تبليغ الرسالة المفهوم من: {أَرْسَلْنَاكَ} {مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} أي: يتقرب إليه بالإيمان والطاعة. أي: إلى رحمته أو جنابه. فاتخاذ السبيل، مراد به لازم معناه. لأن من سلك طريق شيء، قرب إليه، بل وصل.
قال الزمخشريّ: مثال: {إِلَّا مَنْ شَاءَ} والمراد: إلّا فعل من شاء. واستثنائه عن. الأجر قولُ ذي شفقة عليك، قد سعى لك في تحصيل مالٍ: ما أطلب منك ثوابًا على ما سعيت، إلا أن تحفظ هذا المال ولا تضيعه. فليس حفظك المال لنفسك من جنس الثواب. ولكن صورّه هو بصورة الثواب وسماه باسمه، فأفاد فائدتين: إحداهما: قلع شبهة الطمع في الثواب من أصله. كأنه يقول لك: إن كان حفظك لمالك ثوابًا، فإني أطلب الثواب.
والثانية: إظهار الشفقة البالغة، وأنك إن حفظت مالك اعتدَّ بحفظك ثوابًا ورضي به، كما يرضى المثاب بالثواب.
ولعمري إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مع المبعوث إليهم بهذا الصدد وفوقه. انتهى.
والاستثناء على هذا متصل ادعاء.
{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ}.
أي: في دفع شرهم ومكرهم: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} أي: عليمًا لا يعزب عنه منها شيء، فيجزيهم عليها.
{الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} أي: من أيامه تعالى، أو أيام الخلق، قولان للسلف: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} أي: علا فوقه علوًّا يليق بجلاله المقدس. وتقدم تفسيره: {الرَّحْمَنُ} مرفوع على المدح. أي: هو الرحمن، وهو في الحقيقة وصف آخر للحيّ، كما قرئ بالجرّ. وقيل: الموصول مبتدأ والرحمن خبره. وقيل: الرحمن بدل من المستكن في: {اسْتَوَى} وقوله تعالى: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} فيه أوجه: منها الباء في به صلة اسأل ومنها أنها صلة خبيرًا وخبيرًا مفعول اسأل أي: فسل عنه رجلًا عارفًا يخبرك برحمته. أو فسل رجلًا خبيرًا به وبرحمته. وعليه ففائدة سؤاله هو تصدقه وتأييده.
قال الشهاب: ويصح تنازعهما- أي: اسأل وخبيرًا- في الباء. وفيه حينئذ نوع من البديع غريب يسمى المتجاذب. وهو كون لفظ واحد بين جملتين يصح جعله من الأولى والثانية. وقد ذكره السعد في أواخر شرح المفتاح وهذا مما غفل عنه أصحاب البديعيات. انتهى. ومنها أن الباء للتجريد. كقولك رأيت به أسدًا. أي: برؤيته. أي: اسأل بسؤاله خبيرًا والمعنى: إن سألته وجدته خبيرًا.
قال في الكشف: وهو أوجه، ليكون كالتتميم لقوله: {الَّذِي خَلَقَ}، الخ فإنه لإثبات القدرة، مدمجًا فيه العلم.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} أي: من المسمى به؟ لأنهم ما كانوا يعرفونه تعالى بهذا الاسم ولا يطلقونه عليه. أو الاستفهام للتعجب والاستغراب، تفننًا في الإباء. أي: وما هذه الأسماء والأعلام التي تصدعنا بها، وتقرع آذاننا بالإذعان لها {أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ} أي: الأمر بالسجود، المراد به الإذعان بالإيمان: {نُفُورًا} أي: استكبارًا عن الإيمان. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56)}.
لما أفضى الكلامُ بأفانين انتقالاته إلى التعجيب من استمرارهم على أن يعبدوا ما لا يضرهم ولا ينفعهم أُعقب بما يومىء إلى استمرارهم على تكذيبهم محمدًا صلى الله عليه وسلم في دعوى الرسالة بنسبة ما بلغه إليهم إلى الإفك، وأنه أساطير الأولين، وأنه سِحر، فأبطلت دعاويهم كلها بوصف النبي بأنه مرسل من الله، وقصره على صفتي التبشير والنذارة.
وهذا الكلام الوارد في الردّ عليهم جامع بين إبطال إنكارهم لرسالته وبين تأنيس الرسول عليه الصلاة والسلام بأنه ليس بمضلّ ولكنه مُبشّر ونذير.
وفيه تعريض بأن لا يحزن لتكذيبهم إياه.
ثم أمره بأن يخاطبهم بأنه غير طامع من دعوتهم في أن يعتز باتِّباعهم إياه حتى يحسبوا أنهم إن أعرضوا عنه فقد بلغوا من النكاية به أملهم، بل ما عليه إلا التبليغ بالتبشير والنذارة لفائدتهم لا يريد منهم الجزاء على عمله ذلك.
والأجر: العوض على العمل ولو بعمل آخر يقصد به الجزاء.
والاستثناء تأكيد لنفي أن يكون يسألهم أجرًا لأنه استثناء من أحوال عامة محذوف ما يدل عليها لقصد التعميم، والاستثناء معيار العموم فلذلك كثر في كلام العرب أن يجعل تأكيد الفعللِ في صورة الاستثناء، ويسمى تأكيد المدح بما يشبه الذم، وبعبارة أتقن تأكيدَ الشيء بما يشبه ضده وهو مرتبتان: منه ما هو تأكيد محض وهو ما كان المستثنى فيه منقطعًا عن المستثنى منه أصلًا كقول النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ** بهن فلول من قراع الكتائب

فإن فلول سيوفهم ليس من جنس العيب فيهم بحال؛ ومنه مرتبة ما هو تأكيد في الجملة وهو ما المستثنى فيه ليس من جنس المستثنى منه لكنه قريب منه بالمشابهة لم يطلق عليه اسم المشبه به بما تضمنه الاستثناء كما في قوله: {قل لا أسألكم عليه أجرًا إلا المودة في القربى} [الشورى: 23]، ألا ترى أنه نفى أن يكون يسألهم أجرًا على الإطلاق في قوله تعالى: {قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين} [ص: 86].